احمد البحراني ،الرسم مبرهنا على النحت

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
25/04/2011 06:00 AM
GMT



لعبة التصوير والامحاء

  ليس ممارسة النحات لفن الرسم سوى سلوكٌ ضمنيٌ ،

اجراءٌ يفرضه السعي الداخلي لانتاج التجربة باشكال مختلفة ،او على الاقل التفكير بالصورة وفق انساق مغايرة،غير ان المهم هو معرفة مدى تلك العلاقة بين الاجراء النحتي من جانب، والتصويري من جانب اخر ،ليس من جانب اسلوبي فقط ،بل من جانب تقني ايضا،وتحديد  مدى التعالق بين الاظهار النحتي والاظهار التصويري لتجربة الفنان،مع الايمان بالاختلاف التقني بينهما،ومع ان البحراني يستاثر بالحديد في انجاز منحوتاته ،لما يوفره من بعد فني خاص عبر تشكيلاته وخواصه.الا ان البحراني يبدي  في الرسم اخلاصه للتصورات الاولية ذاتها، عبر انتاجه للشكل الكاليغرافي المجرد.الشكل الذي تنهض بنيته على حركة الخط في فضاء ما.ان تجربة لديه قائمة على عنصر الخط اساسا، بوصفه نحاتا ،دون انكار العناصر الاخرى،فالخط كعادته يجلب ما يجلبه معه من عناصر اخرى.اي ان اللون حاضرفيه بحضور المادة.كما يبلور  الفنان  القيمة الخطية الى كتل رشيقة تتغلغل في الفضاء ،لتعيد انتاجه وتمنحه البعد التعبيري و التجريدي في ان واحد ،دون الاحتكام لمعنى محدد .معنى حكائي يستند اليه الشكل او يشير اليه.ان رسوم احمد البحراني تشكل امتدادا مكشوفا لتجربته النحتية وهو امر طبيعي ،لابد من تاسيسه لفنان ينتمي الى تجربته الخاصة بثقة ومعرفة.ونقول امتداد وليس تمثيل لها. 
 
 تتعالق الرسوم لدى احمد البحراني من جانبين مع منحوتاته ، وهذا ليس اكتشافا بقدر ما هو تاسيس لفحص التجربة،عبر تحديد خطوطها العامة .فهو يعيد انتاج الشكل الخطوطي ذاته.كما يعيد انتاج البنية الحركية للخط المشاكس والمتناغم في منحوتاته بكل صلادته وقوته ورسوخه ووقاره الشعري،لتراسل رسومه تلك البنية الخطية الحادة والرشيقة في اكثر اعماله التصويرية تماسا ومجاورة لعمله النحتي.كما يوكد - من جانب  اخر- تعالق الرسم مع منجزه النحتي،عبر الرسم باللونين الاسود والابيض.فهو يقيم عالمه التصويري مخلصا لمنجزه النحتي.وهو منجز الفنان اولا.فهو لاينتج تصورات نحتية في عمله التصويري ولا يحاول التعبير عن النحت في رسومة.بل هو يذهب الى ابعد من ذلك .فرسوم ا البحراني امتداد مهم وتحول مفترض لمنجزه.تحول في نسق البناء التقني دون الانزلاق بالشكل نحو فضاءات مختلفة.ان الرسام احمد البحراني لايتخلى عن النحات في رسومه مطلقا.ايمانا منه بان الرسم والنحت كلا لايتجزا.ليؤكد لنا على ان الشكل النحتي لديه ليس صورة افتراضية لتصورات اخرى وليس وسيلة للتعبير عن معنى اخر.انه يوكد عبر رسومه على ان الشكل لديه يمثل غاية قصوى وهي ليست جسرا او عتبة لمعانٍ مضمرة  .ان ما يقوم به احمد البحراني هو غاية ما يريد قوله دون اللجوء الى التورية.

 ان طريقة الرسام في انجاز لوحته تعد طريقة كاشفة او مبرهنة لنا جميعا على التعالق الدقيق بين الرسم والنحت.فهو يكشف لنا عن ذلك التعالق بصورة واضحة وبلا مماحكات.ان الرسام ينحت لوحته كما كان يرسم منحوتته في فضاء واقعي.حيث يبدا احمد البحراني بلمسات حادة تملا جزءا من فضاء اللوحة مستخدما يده العارية في اغلب الاحيان، او اي اداة اخرى دون اللجوء الى الفرشاة.مايثبت تلك العلاقة بين اللوحة ويد النحات.يملا فضاء اللوحة بخطوط عريضة صلدة سوداء متقاطعة .ممثلا الخطوط العريضة في عمله النحتي.وهو لايستعيرها ولايؤسس لها بقدر ما يعيد انتاجها بطريقة مجاورة.ثم تجري على اللوحة تقنيات اكثر كشفا عن التعالق الاصيل بين النحت والرسم.اذ يبدا الفنان بطمس الاجزاء المهيمنة بصبغة اكثر غزارة واشد كثافة فهو يتعامل مع الصبغة بروح النحات ذاتها.ليعيد صناعة الفضاء من جديد بعد اشتغاله على الكتل الرئيسة.ان التقنية التي يعمل عليها الفنان بدفن -ولا اقول حذف الاشكال- الرئيسة تعد اجراءا  اقرب الى الممارسة النحتية في بناء العمل.من خلال اكساء او طمر الاجزاء الاكثر حضورا.

 ان محاولة الفنان في الحذف او الملء باللون الابيض تجري لانضاج الفضاء حسيا ،وعبر طريقة تبدو اولية او بدئية ،من خلال  استخدامه يده مباشرة في اكساء الفضاء في سلوكٍ اقرب الى البنائين القرويين.ان الفنان يحاول ان يطمر الشكل الذي ضل يرافقه طويلا ويشاكسة .ان الطريقة ذاتها تمثل سلوكا نحتيا في حقيقتها الا انه يمارس ذلك لاقصاء الصلادة التي تتمتع بها تجربته .انه سلوك نحتى  ضد سلوك نحتي اخر.فهو في كل احواله لايتخلى عن النحت كقيمة تقنية قصوى.ليس بوصفها جنسا وانما بوصفها اجراءا محضا.

 تتخلل بعض اعمال الفنان بقايا للمسات لونية ،افرزتها تقنية الالغاء للاشكال التي جرى طمسها بالطريقة ذاتها.ان ممارسة الفنان لطمس الاشكال الحادة والمكشوفة والمتعارف عليها في منجزه تمثل نوعا من تمييع العلاقة الكاشفة .اذ يحاول طمس الاثر الكاشف لتلك العلاقة بين الرسم والنحت في اعماله.انها ليست محاولة للتضليل بقدر ما هي محاولة للابتعاد باللوحة نحو فضاءات اكثر غنائية وتعبيرية يمارس من خلالها اللعب والمتعة والتجريب بمادة لدنة اكثر مطاوعة وطراوة.انها القيمة المفقودة في مادته الاولى.فهو كما يقول احاول ان اعيش لحضة تامل مع الرسم.لحضة بعيدةا عن السلوك الجماعي للنحت.لحضة خارج الشروط النحتية القاسية.

 ان ممارسة الفنان في طمس الاشكال الاكثر حضورا في تجربته تعد محاولة اقرب الى محاولات الاطفال بدفن اشياءهم المحببة في الرمل.انها دعوة للعب مع المتلقي  من خلال متعة الاكتشاف والتيه.متعة التوقع والاستدلال.متعة اقرب الى الامساك بخيوط المعرفة البصرية.انه يخفي الصورة وعلينا ان نجد نسخ متعددة لها. محاولة لاشراكنا في حفر الشكل والكشف عن ملامحة .الكشف عن تعالقاته الاولى.واصوله البصرية. نرمم  معه خارطة ممحوة الاجزاء. و نعيد لعبة تركيب المكعبات المبعثرة لصورة ما غائبة  .انها لعبة النسخ المتعددة ،لعبة الفن وحده.

ان احمد البحراني يبرهن في منجزه التصويري على ان  ليس هناك مايسمى نحاتا يمارس الرسم او رساما يمارس النحت.ان الرسم طريقة مختلفة في النحت وليس عن النحت كا ان النحت طريقة مختلفة في الرسم وليس عن الرسم.ان التجنيسات ما هي الا تصنيفات مجانية لا معنى لها في الحقيقة.
اننا ازاء ممارسة حقيقية في البرهنة على تواصل الفنان مع حقيقة الفن لا حقيقة الجنس الفني.ان الفنان احمد البحراني لا يرى انتماءه سوى للقيمة التصويريه ،دون المرور بالتسميات والتقنيات والافكار،انها ممارسة اقرب الى الحاجة الوجدانية منها لاي شرط اخر.وهو مايؤمن له القيمة الجمالية والفنية.وهو ما دفع بلوحة الفنان لأن تمتد الى ممارسة اكثر تصويرية عبر الحذف الشديد ما افرز بالتالي سطحا تعبيريا اكثر غنائية وحرية.اكثر سرية ولهوا.ان ما افرزته تجربة النحات احمد البحراني عبر الرسم مفرزا لابد من انجازه لاضافة تفصيل تصويري لتجربته ،ولتجربة الرسم العراقي عموما.
نيسان2011
عمان